احمد جمال الجسار
04 Oct
04Oct

لطالما كان علم الإحصاء هو العدسة التي نرى بها العالم، أداة لا غنى عنها في تقييم الأداء ورسم السياسات. لكن هذه العدسة، في صيغتها التقليدية، ظلت لقرون تركز على ما هو خاطئ: رصد المشكلات، واختبار الفرضيات السلبية، وتسليط الضوء على جوانب النقص والتراجع (Deficit-based analysis).

في مواجهة هذا النقص في التوازن المعرفي، ظهرت منهجية "الإحصاء الإيجابي" (Positive Statistics)، التي قدمها الباحث أحمد جمال الجسار ، لتمثل تحولاً فلسفياً وتطبيقياً عميقاً. إنها دعوة لإعادة توجيه التحليل الإحصائي من مجرد "مراقبة الإخفاق" إلى "تتبع الفعالية" و"تعزيز الإمكانات".

فيما يلي تحليل لأهمية اعتماد هذه المنهجية ولماذا يجب أن تشكل جزءًا أساسيًا من تدريب المحللين في المستقبل. 

1. الإحصاء الإيجابي: يمكن تعريف الإحصاء الإيجابي بأنه فرع مبتكر من الإحصاء التطبيقي، يُعنى بشكل صريح بقياس وتحليل وتفسير العوامل الإيجابية في السلوك البشري، والتنظيمات، والأنظمة الاجتماعية، مع التركيز على ما يسهم فعلياً في النمو والتحسن.

 الغرض الرئيسي ليس تجاهل التحديات، بل تحقيق رؤية متوازنة للواقع، حيث تُعامل الأرقام كأداة للتحفيز والتنمية، بدلاً من أن تكون مجرد مرآة تعكس العجز أو الإخفاق. إنه إحصاء "بنّاء وتوجيهي" يسعى لدعم القرارات الاستراتيجية والتنموية عبر بيانات تُبرز القيمة والمردود الإيجابي. 

2. أهمية اعتماد منهجية الإحصاء الإيجابي إن تبني هذه المنهجية ليس مجرد إضافة تقنية، بل هو ضرورة استراتيجية ومؤسسية تعود بفوائد عميقة:

 أ. إعادة التوازن في قراءة الواقع وتجنب الإحباط يُعد التركيز المفرط على السلبيات في التحليل الإحصائي التقليدي سببًا رئيسيًا في نشر رؤية مشوشة ومحبطة، خاصة عندما يتم تجاهل النجاحات الصغيرة والمتراكمة. يتدخل الإحصاء الإيجابي هنا ليوازن هذه القراءة، مؤكدًا على أهمية تحليل الإنجازات واعتبارها منطلقات للتطوير والتغيير. إن هذا التوازن في قراءة البيانات هو ما يمكّن المؤسسات والأفراد من الشعور الحقيقي بالقدرة على الإنجاز.

 ب. التحول من المحاسبة إلى التحفيز (بناء ثقافة التقدير) تكمن القوة التحويلية للإحصاء الإيجابي في قدرته على تغيير الثقافة التنظيمية. عندما يتحول الإحصاء من كونه أداة للتقريع والمحاسبة إلى أداة لتقدير الجهود وتحديد عوامل النجاح الجزئي، فإنه يخلق "ثقافة تقديرية". لقد أظهرت الدراسات في علم النفس التنظيمي أن تحليل النجاح والاعتراف به هو أحد أقوى المحفزات للتحسين المستمر على مستوى الأفراد والفرق. ومن خلال تحليل "ما يعمل جيدًا"، يتم تقليل القلق المصاحب لعمليات التقييم. 

ج. دعم القرارات الاستراتيجية القائمة على الفعالية في مجال صنع القرار الاستراتيجي، يتيح الإحصاء الإيجابي لصناع السياسات تسليط الضوء على التجارب الناجحة (Positive Deviance) القابلة للتعميم. وبدلًا من الاستنزاف المستمر للموارد في معالجة أوجه القصور، يتم توجيه الاستثمار بناءً على فعالية مثبتة. على سبيل المثال، في دراسة تطبيقية لمنهجية الإحصاء الإيجابي على التعليم التقني في العراق، تم تحليل أسباب "النمو الإيجابي" في أعداد الملتحقين، مما أدى إلى توصيات تستهدف استثمار هذا النمو في التوسع النوعي.4 إن هذا يضمن أن تكون السياسات مبنية على فهم عميق للعوامل التمكينية التي أدت إلى النمو، بدلاً من بيانات الفشل المحضة. 

د. المواءمة مع علم النفس الإيجابي يستمد الإحصاء الإيجابي أسسه الفلسفية من علم النفس الإيجابي (Positive Psychology) ، الذي يدعو لدراسة السمات النفسية الإيجابية، مثل الرفاهية والسعادة والرضا والأمل. ومن خلال استخدام أدوات كمية لقياس هذه المتغيرات، يصبح الإحصاء هو "الحاضنة الكمية" لتحليل الرفاهية والسعادة ، مما يسمح بتقييم التقدم الوطني بشكل شمولي يتجاوز المؤشرات الاقتصادية التقليدية.

3. لماذا يجب تدريس الإحصاء الإيجابي للجيل الجديد من المحللين؟ 

لا يمكن للمحلل المعاصر أن يقتصر على أدوات القرن العشرين التي تكتفي بالتحقق من الرفض أو القبول، بل يجب تزويده بالأطر المنهجية التي تُمكّنه من القيادة والتوجيه التنموي: 

أ. التركيز على النمذجة الطولية (قياس النمو) يتطلب الإحصاء الإيجابي من المحللين استخدام أدوات متقدمة قادرة على تتبع مسارات التغيير الإيجابي بمرور الوقت.وبدلًا من الاكتفاء بالقياس المقطعي، يجب على المحللين الجدد إتقان النماذج الطولية، مثل نماذج منحنيات النمو الكامنة (Latent Growth Curve Models)، التي تتيح لهم وصف وتفسير معدلات التغير الفردية وتجنب "تحيز التجميع" الذي قد يخفي القصص الفردية للنجاح. هذا التخصص ضروري لقياس "النمو المستدام".

 ب. إجادة أدوات التقدير بدلاً من الاختبار بينما تُعد حركات مثل "الإحصاء الجديد" (The New Statistics) إصلاحًا تقنيًا يركز على تحسين دقة الاستدلال ، فإن الإحصاء الإيجابي يتطلب من المحلل أن يتجاوز مجرد إجراء الاختبارات إلى طرح أسئلة كمية وتقديم إجابات كمية. هذا يعني ضرورة التركيز على تقدير أحجام الأثر الإيجابي (Effect Sizes) واستخدام فترات الثقة (Confidence Intervals) لتحديد حجم وقوة الظاهرة الملاحظة، وليس مجرد معرفة ما إذا كانت موجودة أم لا. هذا التحول الفلسفي يجعل النتائج أكثر قابلية للاستخدام في صنع القرار التنموي. 

ج. تطوير مهارات التفكير التقديري الهدف الأعمق لتدريس الإحصاء الإيجابي هو تطوير مهارات التفكير التقديري والتحفيزي لدى المحلل. يجب أن يتعلم المحلل كيف يستخلص من البيانات العوامل التي يمكن البناء عليها وتعميمها ، وكيف يحول الأرقام إلى حافز للتغيير بدلاً من أداة للرقابة. هذه المهارات ضرورية لخلق جيل من المحللين لا يكتفي بالرصد، بل يقود المؤسسات نحو الأهداف الإيجابية الكبرى بفاعلية وإلهام.  

مما سبق نخلص الى إن الإحصاء الإيجابي ليس بديلاً للإحصاء التقليدي، بل هو مدرسة جديدة توسع نطاقه وفلسفته. إنها تزوّد الجيل القادم من المحللين بأدوات كمية قادرة على قياس التنمية والتحفيز. وبتدريس هذا المنهج، نضمن أن يكون قادة المستقبل قادرين على رؤية القيمة الكامنة في البيانات، وتوجيه المجتمعات والمؤسسات نحو الازدهار والنمو المستدام.


المراجع:

1- الجسار، أ. ج. (2025). الإحصاء الإيجابي: نهج مبتكر لقياس النجاح والتحفيز. 

2- الجسار، أ. ج. (2025). الإحصاء الإيجابي: منظور جديد في عالم الأرقام. الحوار المتمدن.

3- منصة أريد. أكاديمية الإحصاء الإيجابي. (2025، 20 أبريل). تأسيس أكاديمية الإحصاء الإيجابي. أكاديمية الإحصاء الإيجابي. (2025). 

4- دراسة عراقية رائدة تكشف عن تحسن ملحوظ في التعليم التقني بمنهجية "الإحصاء الإيجابي". منصة أريد. أكاديمية الإحصاء الإيجابي. (2025). 

Haidt, J., & Keyes, C. L. M. (Eds.). (2005). Flourishing: Positive Psychology and the Life Well-Lived. American Psychological Association.   
Martin, E. P. S. (1998). Learned optimism: How to change your mind and your life. Pocket Books.   
Office for National Statistics (ONS). (2025). Personal well-being survey user guide.   
Ong, A. D., & Van Dulmen, M. H. M. (Eds.). (2007). Oxford Handbook of Methods in Positive Psychology (Series in Positive Psychology). Oxford University Press.   
Ranganathan, P., & Pramesh, C. S. (2019). The “New Statistics” for researchers: Why and how to use confidence intervals, effect sizes, and meta-analysis. National Medical Journal of India, 32(4), 232–239.   
World Happiness Report. (n.d.). Global wellbeing and how to improve it.