تنويه: هذه المقالة ليست بحثًا أكاديميًا، بل مادة توعوية تهدف إلى تبسيط فكرة الإحصاء الإيجابي للقارئ العام، وإبراز كيف يمكن للأرقام أن تتحول من مجرد جداول جامدة إلى قصص عن النمو والتحسّن.
كثرة النِّعم وزحمة البيانات
كما أن كثرة النِّعم قد تُنسي الإنسان شكرها، كذلك زحمة البيانات قد تُخفي إنجازات حقيقية وسط ضجيج الأرقام. حين يتعلم الطفل المشي أو الكلام، فإنه يمر بمئات وربما آلاف المحاولات. الدراسات الحديثة تشير إلى أن الطفل يسقط في المتوسط 50 مرة يوميًا أثناء تعلم المشي، ومع ذلك يواصل بلا يأس. أما الكلمة الأولى، فهي ثمرة آلاف الأصوات العشوائية التي يطلقها قبل أن يُتقن ربط الصوت بالمعنى.
تخيّل كم البيانات التي تتراكم لطفل عند بلوغه سنتين عن محاولات المشي أو الكلام! الوالدان لا ينتظران أن يركض أو يتحدث بطلاقة، بل يحتفلان بأول خطوة غير متوازنة وأول كلمة غير مكتملة. هذا التشجيع يُغذي الطفل بطاقة إيجابية تدفعه للاستمرار. وهنا يكمن جوهر الإحصاء الإيجابي، والذي يُعرّف بأنه: "فرع من الإحصاء التطبيقي يُعنى بقياس، وتحليل، وتفسير العوامل الإيجابية في السلوك البشري، والتنظيمات، والأنظمة الاجتماعية، مع التركيز على ما يُسهم في النمو والتحسن."
الإحصاء الإيجابي يمنحنا القدرة على تقدير النمو التدريجي، ورؤية النجاح في التراكمات الصغيرة التي تصنع إنجازًا كبيرًا مع مرور الوقت، حتى لا تذوب نجاحاتنا الصغيرة في زحمة البيانات. فهي بذور التغيير الحقيقي، الذي يتطلب دائمًا أن نتوقف قليلًا لنستخرج من كثرة الأحداث ما يستحق الحمد، والشكر لله.
المستقيم ليس دائمًا أقصر مسافة بين نقطتين
في الرياضيات، درسنا أن الخط المستقيم هو الأقصر بين نقطتين، لكن في الواقع العملي، ليس دائمًا كذلك. فالطائرات لا تسلك الخطوط المستقيمة، بل تتبع المسار الأمثل الذي قد يبدو منحنيًا لكنه أسرع وأمن. وفي نظام GPS حين تحدد موقعك ووجهتك، لا يقترح لك النظام خطًا مستقيمًا، بل مسارًا متعرجًا وفق الطرق المتاحة، والقوانين المرورية، والظروف الواقعية. فما فائدة السرعة إذا كانت في الاتجاه الخاطئ؟ المهم أن نعرف الوجهة أولًا، ثم نسير إليها بخطى ثابتة وسرعة مناسبة.
في الإحصاء الإيجابي لا نكتفي بتجميع البيانات وعرضها وتحليلها، بل نتعلم كيف نُعيد ترتيبها وتفسيرها حتى تُظهر لنا القيم المخفية وسط زحمة الأرقام. لأن تحديد المؤشر الصحيح أهم من الإسراع في جمع أعداد كبيرة بلا هدف أو غاية واضحة. كذلك في حياتنا، علينا ألا نُرهق أنفسنا بالتركيز فقط على ما لم نصل إليه بعد، بل نوازن بين الرؤية المستقبلية والامتنان للمنجز الحالي.
فالطريق الطويل يُصبح أيسر حين نحتفل بكل محطة نصل إليها. حين ندمج مبادئ الإحصاء الإيجابي مع دروس الواقع، ندرك أن الطريق الصحيح هو الذي يراعي الإنجازات، ويتجاوز التحديات، ويحقق التوازن في الحياة. فكما أن نظام GPS لا يوجّهك عبر خط مستقيم بل عبر طرق آمنة، كذلك الإحصاء الإيجابي لا يختزل البيانات في متوسط وحيد، بل يكشف لنا الجوانب التي تساعدنا على بناء نمو حقيقي ومستدام.
الخاتمة الحياة رحلة، والإحصاء الإيجابي يخبرنا أن كل رقم صغير هو شاهد على نمو وإنجاز، إذا أحسنا قراءته.
المراجع
Al-Jassar, A. J. (2025). The philosophy of positive statistics: Scientific and methodological foundations for a new approach in phenomenon analysis. Zenodo. https://doi.org/10.5281/zenodo.15549698 Al-Jassar, A. J. (2025). Positive statistics guide – A comprehensive view of concepts, tools, and applications. Zenodo. https://doi.org/10.5281/zenodo.15595354 Al-Jassar, A. J. (2025). Positive statistics: A comprehensive and historical overview. Zenodo. https://doi.org/10.5281/zenodo.15564840 Azzat, M. H. (2025). Vice Scientific Director, Positive Statistics Academy, Morocco.
حول الكاتب: د.مولاي الحنفي عزات - المغرب أستاذ جامعي وباحث في الإحصاء / نائب المدير العلمي – أكاديمية الإحصاء الإيجابي