20 Nov
20Nov

بقلم: أحمد جمال الجسّار
إحصائي أقدم – هيأة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية
مبتكر منهجية الإحصاء الإيجابي


المقدمة

شهد علم اقتصاد التنمية خلال العقود الأخيرة توسعًا كبيرًا في مفاهيمه وأدواته التحليلية، لكونه معنيًّا بتفسير ديناميكيات النمو، وتحسين كفاءة السياسات العامة، ورفع مستوى رفاه الإنسان. وفي الوقت نفسه، ظهرت حاجة متزايدة إلى أدوات إحصائية أكثر قدرة على قياس التقدم الحقيقي وليس فقط تشخيص حالات الضعف.

ضمن هذا السياق، جاءت منهجية الإحصاء الإيجابي لتقدم إطارًا تحليليًا كميًا جديدًا يركز على العوامل المساهمة في النمو، وعلى تتبّع التحسّن والتمكين بدلًا من الاكتفاء برصد الاختلالات. هذا المقال يسعى إلى بيان العلاقة العلمية بين الإحصاء الإيجابي واقتصاد التنمية، وكيف يمكن للمنهجية أن ترفد الفكر التنموي بأدوات موثوقة وفعّالة.

أولًا: اقتصاد التنمية – الإطار النظري العام

يرتكز اقتصاد التنمية على مجموعة من المفاهيم الأساسية المرتبطة بتحسين المستوى المعيشي، وتعزيز النمو المستدام، ورفع كفاءة رأس المال البشري والمؤسسي. ويعمل على تحليل:

  • مستويات الإنتاجية،
  • سياسات التمكين الاقتصادي،
  • التعليم والصحة،
  • البنية التحتية،
  • والتنمية البشرية.

تقوم المقاربات التقليدية لاقتصاد التنمية عادةً على تحليل اختلالات الاقتصاد، وتحديد فجوات الضعف، وتقدير أثر السياسات في تقليل تلك الفجوات.

ثانيًا: منهجية الإحصاء الإيجابي – الإطار المفاهيمي

الإحصاء الإيجابي هو فرع من الإحصاء التطبيقي يُعنى بقياس، وتحليل، وتفسير العوامل الإيجابية في السلوك البشري والتنظيمات والأنظمة الاجتماعية، مع التركيز على ما يسهم في النمو والتحسن.

وتأتي المنهجية برؤية تحليلية جديدة تتجاوز حدود التشخيص التقليدي، من خلال التركيز على:

  • رصد اتجاهات التحسّن،
  • قياس مستويات التمكين،
  • تحليل عناصر القوة،
  • وتقدير تأثير العوامل المؤثرة في الاتجاه الصاعد للنمو.

وقد تم تطوير مجموعة من المؤشرات الأساسية التي تمثل العمود الفقري للمنهجية، أبرزها:

  • مؤشر التمكين الإيجابي PEI،
  • مؤشر التغطية CI،
  • المؤشر الإيجابي المركب CPAI،
    إلى جانب أدوات تحليلية مساندة مثل اختبار الحساسية، والانحدار الإيجابي، والمحاكاة.

ثالثًا: نقاط الارتباط الجوهرية بين الإحصاء الإيجابي واقتصاد التنمية

1. الانتقال من قياس العجز إلى قياس التمكين

بينما تركز أغلب تحليلات اقتصاد التنمية على فجوات الضعف (فجوة التعليم، فجوة الدخل، فجوة الإنتاجية)، تأتي منهجية الإحصاء الإيجابي لتقدّم مقاربة مكملة، تُعنى بتحديد أين تحدث التحسينات، وبأي وتيرة، وما العوامل التي تقودها.

هذا الانتقال يعزز قدرة المؤسسات وصنّاع السياسات على توجيه القرار نحو النمو بدلًا من الاكتفاء بتقليل الفجوات.

2. دعم القياس الدقيق للسياسات التنموية

تتطلب السياسات الاقتصادية الناجحة أدوات كمية قادرة على قياس أثر التدخلات بمرور الزمن.

وهنا يقدم الإحصاء الإيجابي أدوات مثل:

  • PEI لقياس التمكين الاقتصادي،
  • CI لقياس عمق التحسن وانتشاره،
  • CPAI لتجميع المؤشرات في قيمة معيارية واحدة.

هذه الأدوات تقدم إضافة نوعية لاقتصاد التنمية عبر قياس "سرعة النمو" و"درجة التمكين" بصورة أكثر دقة.

3. ربط التحليل الإحصائي بأهداف التنمية المستدامة

يعد تحليل التقدم في أهداف التنمية المستدامة (SDGs) من أهم مجالات اقتصاد التنمية الحديث.

وقد أثبتت الدراسات التطبيقية التي استخدمت منهجية الإحصاء الإيجابي – ومن بينها دراسات قطاع السياحة والتعليم والبنى التحتية – أن المؤشرات الإيجابية تمنح قدرة أكبر على:

  • تفسير اتجاهات التحسّن،
  • مقارنة المحافظات أو الدول،
  • قياس أثر البرامج الحكومية،
  • تحديد فجوات التمكين التنموي.

4. بناء نموذج تنموي قائم على التمكين

يركز اقتصاد التنمية المعاصر على التمكين الاقتصادي والاجتماعي بوصفه عنصرًا محوريًا للنمو، سواء عبر التعليم، أو التكنولوجيا، أو سياسات الدعم المؤسسي.

وتتوافق منهجية الإحصاء الإيجابي تمامًا مع هذا التوجه، لأنها تقيس التمكين كقيمة كمية قابلة للمقارنة، مما يتيح نقله من مستوى "الشعار" إلى مستوى "القياس".

رابعًا: تطبيقات مشتركة في البيئة العربية

يمكن دمج الإحصاء الإيجابي مع اقتصاد التنمية في مجموعة من المجالات الحيوية، مثل:

  • تحليل مستويات التعليم العالي وتنمية رأس المال البشري،
  • تقييم مشاريع البنية التحتية والطاقة،
  • قياس التقدم في مؤشرات النقل، السياحة، الصحة، والخدمات العامة،
  • تحليل التمكين الاقتصادي للمرأة والشباب،
  • تطوير مؤشرات مركبة للمدن الذكية.

وتؤكد النتائج المنشورة في الدراسات التي اعتمدت المنهجية أن استخدامها داخل إطار تنموي يمنح صناع القرار رؤية أوضح للاتجاهات الموجبة التي ينبغي دعمها وتوسيع أثرها.

الخاتمة

يشكل الربط بين الإحصاء الإيجابي وعلم اقتصاد التنمية خطوة متقدمة نحو تطوير منظومة التحليل الكمي للتنمية. فالإحصاء الإيجابي يوفر أدوات جديدة لقياس التقدم وتمكين الأفراد والمؤسسات، بينما يوفر اقتصاد التنمية الخلفية النظرية لتفسير تلك التغيرات ووضع السياسات المناسبة لها.

ويمثل الجمع بينهما إطارًا علميًا حديثًا يفتح آفاقًا واسعة أمام الباحثين، ويعزز قدرة الحكومات والمؤسسات على فهم التحسينات التنموية وتوجيه مواردها بكفاءة أكبر.إن الإحصاء الإيجابي ليس مجرد منهج إحصائي، بل مقاربة تنموية متكاملة يمكن أن تصبح ركيزة أساسية في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات القادمة.


المراجع

الجسّار، أ. ج. (2025). فلسفة الإحصاء الإيجابي: التأصيل العلمي والمنهجي لرؤية جديدة في تحليل الظواهر.

الجسّار، أ. ج. (2025). التمكين الإيجابي في قطاع السياحة العراقي: تحليل تطبيقي باستخدام منهجية الإحصاء الإيجابي لعام 2023. المجلة الدولية للدراسات الاقتصادية، 35.

القريشي، م. (2010). علم اقتصاد التنمية. إثراء للنشر والتوزيع.